عنيزة
    

مكتبة الصور

نُزهة في شوارع العقل

طارق محمود نواب
05-06-2023
يعُد الاعتناء بِتطوِير منهجيَّات التَّفكير مِن صميم عمل أكاديميَّة التَّغيير الدَّاخليِّ لِلإنسان ؛ لِأنَّ أيَّ تغيِير يحدُث على أرض الواقع يسبقه تحوُّل فِي فِكر القائم على صِناعة هذا التَّغيير ، فنحن عِندمَا نعمل لِلتَّأسيس لِمستقبل جديد ، نُؤسِّس له وفق مُعطيات وتصوُّرات مُحددة فِي عُقولِنا ، فإِن كانت هذِه التَّصوُّرات إِيجابيَّة وناضِجة وفعالة اِنعكستْ على الواقع بِعمل حيٍّ يرتقِي بِالمجتمعات ويعمل على تنميتها ، وإِن كانت هذِه التَّصوُّرات مُشوهة أو مُضطربة اِنعكستْ فِي مُمارسات مُذبذبة ومضطربة ؛ لِذلك فإِن ثورة العُقول هِي بِداية التَّغيير . حيث إِنَّ ثورة العُقول هِي اَلتِي تمنح لِلإنسان بريق الفكرة ، وبها تتقدَّم الأُمم وتنهض المجتمعات . حيث أَننا نقُوم بِنزهة فِي شوارِع العقل لِلتَّصدِّي لِبعض أَنماط التَّفكير ومواجهة الأفكار القاتلة ، ويسلِّط الضَّوء على زوايا دقِيقة مِن نمط التَّفكير الحي الذِي ينقُل المجتمعات نقلات كُبرى . فلا يُوجد لدى أحد مِنَّا خارِطة تُوضِّح الشَّوارع التِي يجِب أن يسلُكها فِي العقل . . بل عليْنا الاعتماد على أنفسِنا ، وأن نخُوض الرِّحلة مُتحمِّلين نتائجها ، حيث تقودنا رُوح المغامرة والفضول ، وبداخلنا رغبة الاكتشاف ، فنبدأ بِهمَّة عالِية . . . فِي اِكتِشاف ما يدُور فِي شوارِع هذا العقل . ففِي الشَّارع الأوَّل نجِد تدميرًا كبيرًا لِلأفكار ويتواجد عددًا كبيرًا مِن اَلحُراس ، حيث نعلم عن طريق إِحدى الأفكار الهامسات أنَّ هؤلاء الحُراس هُم مِن يقوموا بِمحاربة الدُّخلاء المتسلِّلين لِلعقْل ، فهم مِن يُدمِّروا مسارات التَّفكير خشية أن تمُر مِن خِلالِها أَفكار غير مرغُوبة ، لكِن يبدُو أنَّ الحُراس ليسُوا هُم السَّبب الوحِيد فِي هذا الدَّمار ، فقْد كادت قدمِي تصطدِم بِقنبلة موقُوتة يسترسِل عِدادها فِي العَد التَّنازليِّ ، فبعض الأفكار تُفخِّخ العقل لِتنتقم مِن مُخالفيها ، وتخلق حالة مِن الهلع وعدم الثقة بين الأفكار ؛ ولذلِك رُبما تطوعت بعض الأفكار لِتجعل مِن نفسها حارسًا ، فهِي تُريد أن تتأكَّد بِنفسِهَا أنَّ مُخالفها لن يطأ مدِينة العقل ، ومِن هُنا يأتِي تدهوُر مدِينة العقل ، فالعقل صمَّم كمختبر لِلأفكار ، لا قاتِل لها على الهوِية . فلا يعنيه كثيرًا أي الأفكار سيمسِك بِزمامه بِقدر ما يعْنيه ألا تُعطِب أجهِزته الموكلة بِاختبار الأفكار . وفِي الشَّارع الثَّاني مِن شوارِع العقل ، اِستدعى أحد سُكَّان العقل زُملائِه لِبدء حملة تطهِير لِلمكتب مِن الأوراق القديمة ، حيث تسلَّم كُلٌّ واحِد مِنهم أحد الأدراج لِيعيد ترتيبه . . أَخذ كُلِّ شخص مِنهم يقلِب فِي الأوراق ورمى أَحدُهم مِلفًّا بِه بعض الأوراق بِلا مُبالاة . أَثار الملفُّ اِنتِباه الزمِيل الآخر ، وانجذب إِليه حتَّى أنهُم كانُوا عاجزِين عن إخراج وجهِه مِن داخِل الملفِّ ! ! ، وأظُن أنَّ سرَّ تبايُن تعامُل الزَّميلينِ مع الملفِّ ، أنَّ الأوَّل رأى فِي أوراقه خمسة خُطُوط مُتوازية ، بينما رأها الثاني سِلمًا ، ورأى الأول مجمُوعة مِن النِّقاط السَّوداء البعض مِنها له ذيل ، بينما قرأها الثَّاني حُرُوف لُغة تنبِض بِالمشاعر المتدفِّقة ، واعتبرها الأوَّل أوراقًا ليس لها مأوى سِوى سلَّة المهملات واحتضنها الثَّاني كثروة مِن إِهداء " بِتهوفن " . فكثيرًا ما نُواجِه فِي حياتِنا رُموزًا نتوهَّم أننا نُدرِك دلالاتها وعُمق ما تحمِله مِن معان فالطِّفل الصغِير يرى " النُّوتة " الموسيقيَّة خمسة خُطُوط تُزينها أَشكال سوداء ، أمًّا الأكبر سِنًّا يُخبِرك أنها " نُوتة " يَقِف عاجزًا عن فكِّ شفراتها ، بينما يتمكَّن العازف مِن سماع اللَّحن بِمجرَّد قِراءة النُّوتة . إِنَّ هذا يدفعنا دائمًا إِلى طرح الأسئلة على ما نراه ، فَرُبمَا نرى القشْرة وتعْمى عُيونَنَا عن رُؤيَة اَلْجَوهر ، أو اِقتربنا مِمَّا نراه وازددنا عُمقًا فِي طرح الأسئلة عليه ؛ أو اِخترقنا جِدار القشرة لِنكتشف عوالِم جدِيدة وهذا يجعلنا نعيش حياتنا كمكتشفينِ ، مِمَّا يزيد مِن مُتعة الحياة ، ويتجدَّد لنا يوميًّا إِبهارهَا . فلكِي نستمتِع بِالحياة يجِب أن نفهم لُغتها ، ولكي نتمكَّن مِن التَّأثير فِيها فعلينا أن نُتقِن طرح الأسئلة عليها ، ولكي نتجنَّب أعاصيرها يجِب أن نسمع أصواتها قبل أن نراها فلحن الأعاصير مُدوَّن على النُّوتة التِي لم نُعِر لها بالاً . فتعلَّمتُ وأنا سائِر فِي شوارِع العقل أو أتابِع الأحداث أنَّ إِفك شفرات الرُّموز التِي أَمامِي وأحوِّلها إِلى جمل اِستفهاميَّة ، فالمباني ليست أحجارًا ولكنها جمل تحمُّل أسئِلة شاهِقة ، والمتجوِّلون فِي الشَّوارع ليسُوا بشرًا مِن لحم ودم ولكنَّهم جمل مُتحركة مُشبعة بِالأسئلة وكُل سُؤال بِداخِله سُؤال أَعمق . رُبما يكُون هذا مِن أَسباب عدم اِكتراثي كثيرًا بِعالم المادَّة وعشقِي لِهذا العالم " عالم الأفكار " . . حيث إِنَّني أَصهر المادَّة إِلى فِكرة ؛ حتَّى أَتمكن مِن فكِّ شفرات مَا أرى ! ! وبهذِه الطَّريقة يُعاد تشكِيل العُقول ، ويعاد تشكِيل الفعل الميدانيِّ ؛ لِإحدَاث زلازِل التَّحوُّل على الأرض ، وتقدِيم النَّقلات الكُبرى فِي التَّجربة البشريَّة ، فشوارع العقل كثِيرَة حاول أن تقُم بِنزهة فِي شوارِع العقل مِن حِين إِلى آخر .

 الكاتب / طارق محمود نواب
 إِعلاميٍّ بِشبكة نادي الصحافة 
كاتب بِجريدة غرب الإلكترونيَّة
 عُضو جمعِية إِعلاميُّون
 عُضو هيئة الصَّحفيِّين السُّعوديِّين
البوم الصور
نُزهة في شوارع العقل